محمود الورداني يكتب: ليست مرثية لعز الدين نجيب

محمود الوردانى
محمود الوردانى

عندما تلقيت خبر رحيل الفنان عز الدين نجيب، كنت أعيد قراءة واحد من كتبه التى تحتل مكانة خاصة عندى، وهو«رسوم الزنزانة» الصادر عن هيئة قصور الثقافة 2014 ويضم ذكرياته عن الشهور التى أمضاها خلف أسوار السجون والمعتقلات منذ عام 1972 ثم 1975 ثم 1997،  إلى جانب الرسوم والبورتريهات التى تمكن من رسمها وتهريبها للخارج، حتى وجدت طريقها بعد عقودٍ للكتاب المشار إليه، بعد مرور 36 عاماً على حدوث وقائعها..

عرفتُ عز الدين نجيب منذ عقود طويلة، والتقيتُ به للمرة الأولى فى مرسمه بالمسافرخانة عام 1969 تقريباً. وتابعته عن قُرب، وأعرف جيداً أنه عاش كما يحب وظل وفياً لاختياراته، منذ منتصف ستينيات القرن الماضى عندما عمل فور تخرجه فى كلية الفنون الجميلة فى قصر ثقافة كفر الشيخ وحقق إنجازاتٍ باهرة وتم إبعاده وقطع الطريق عليه.

اقرأ ايضاً| سلطنة عُمان ضيف شرف معرض الرياض الدولي للكتاب

لم يتوقف عز مطلقاً عن الوفاء لاختياراته السياسية وانحيازاته الفنية، ودفع الثمن كاملاً بكل شجاعة وبلا لحظة ندم على مدى ستين عاما، حتى غادرنا وهو فى الثانية والثمانين، لذلك فهو ليس أهلا للرثاء وذرف الدموع، بل علينا أن نودعه بما يليق به. بتأمل تجربته كفنان تشكيلى حقق الكثير والكثير، وانخراطه فى الدفاع عن الديمقراطية وحرية التعبير، والجمع بين هذا وذاك بلا تعارض أو تناقض.

ينتمى عز بل هو فى مقدمة الجيل الذى اعتبر الفن جزءاً من الأيديولوجيا، واعتبر أن للفنان دوراً فى مواجهة القمع والكبت والسجن، وأن على الفنان أن يدفع الثمن. شارك عز بنشاط وهمة فى حركة المثقفين فى مصر لعدة عقود متواصلة، لكن هذا لم يمنعه من أن يكون أحد الملامح البارزة للفن التشكيلى فى مصر، ولم يمنعه من إصدار نحو عشرين كتاباً فى الفن والقصة والرواية، ولم يمنعه من أن يكون عضواً مؤسساً ورئيساً لفترات لعدد كبير من منظمات المجتمع المدنى مثل: الأتيليه ولجنة الدفاع عن الثقافة القومية وجمعية أصدقاء المتاحف وجمعية أصالة.. وغيرها وغيرها من الجمعيات والمنظمات.

هذا الجيل وتجربته ونضالاته ودفاعه عن حرية الفن وحرية الوطن معاً، وإنجازه الفنى المذهل فى الوقت نفسه، وفى مختلف أشكال الفنون هو ماعلينا أن نحتفى به وفى القلب منه عز الدين نجيب. فعلى سبيل المثال فإن جيل الستينيات الأدبى وإنجازه فى القصة القصيرة والرواية والقصيدة العامية والفصحى، وفى الوقت نفسه الخروج على السائد وانتزاع منابر وأشكال مستقلة منذ مجلة جاليرى 68 ثم مؤتمر الأدباء الشبان فى العام التالي.. هذا الجيل وماتلاه من موجات هى بالتأكيد نقاط مضيئة ولاأبالغ عندما أقول عظيمة، هذا الجيل الذى صنع حركة جسورة هى التى كان عز أحد صناعها، على الرغم من أننا ابتعدنا كثيراً عنها وعما تمثله، ولم تعد الآن إلا ظلاً باهتاً، ربما كان عز من أواخر ممثليها الأوفياء. 

وأخيراً.. أكرر أننى لا أعتبر رحيل عز الدين نجيب مناسبة لذرف الدموع أو الرثاء. إنجازه وقامته والإرث الذى تركه والقيم التى دافع عنها واختياراته التى دفع ثمنها، هى ما ينبغى أن نتذكرها ونتأملها، خصوصاً أننا ابتعدنا عنها تماماً، وتغيرت للأسف أدوار الفنان والكاتب على النحو المزرى الذى نشاهده الآن.

مع السلامة يافنان.. سنفتقدك لكننا، أو على الأقل أنا،  فخور بما دافعت عنه وما ناضلت من أجله.